لم يكن الإعلام حرا قط، ولم يكن يوما متحررا من القيود السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، لم يكن الإعلام يوما صاحب سيادة ذاتية، ولم يكن كما يقال في مدارس الإعلام بأنه عين الشعب الساهرة والسلطة الرابعة.
لطالما كان الإعلام جزءا من أركان الدولة يخدم مصالحها العليا ولا يتجرأ على تجاوزها، ولم تعجز الدولة يوما عن تبرير قمعها لوسائل الإعلام أمام الشعوب بحجة “الأمن القومي”، بل سعت مدارس الإعلام إلى تقنين قمعها ذاتيا بشكل أخلاقي حينما أوردت في قواميسها بأن وسائل الإعلام تعمل ضمن إطار “المسؤولية الاجتماعية”.
تحطيم القيد
في شهر فبراير من عام 2004 ظهرت دويلة جديدة بلا حدود ولا قيود ولا جلاد، فتحت آفاق الحرية لكل من يحبها دون أن يكون لها من وراء ذلك مصلحة ذاتية، حتى باتت دولة فيسبوك اليوم أكبر دولة على هذا الكوكب من حيث عدد السكان.
وفي عام 2006، ظهر موقع تويتر المنافس في منح الحريات وتحطيم القيود، وتتالت بعد ذلك المواقع في الظهور واحدا تلو الآخر حتى لم يعد من السهل إحصاء عددها، ولكن.. هل الحرية الممنوحة في هذه المواقع حقيقية؟
لا يمكن إنكار دور هذه المواقع في تغيير أنظمة وقوانين، ومساهمتها في الضغط على دول ومؤسسات في قضايا حقوقية واجتماعية متعددة، ودورها الكبير في نشر معلومات وأخبار عجزت الوسائل التقليدية عن الوصول إليها، ومع كل ذلك يبقى السؤال معلقا!
الافتراضية
رغم كل ما تمنحه هذه المواقع من حرية للمستخدمين إلا أنها ليست إلا دولة افتراضية يقطن سكانها دولا ذات سلطات حقيقية تلاحق بالقوانين والعقوبات من تعتقد أنهم “خطر على أمنها القومي” أو “معكر للصفو العام في المجتمع”، وقد شهد عام 2015 حالات عديدة لمثل هذه القضايا، بل كان بعضها تحت بند “التعدي على رموز الدولة وهيبتها”.
أضف إلى ذلك استخدام الأنظمة القمعية لهذه المواقع من أجل الوصول إلى الشخصيات الفاعلة في المجتمع لقمع أي حراك يسعى نحو حرية حقيقة، والسجون متخمة بمجموعة واسعة من هذه الشخصيات، والمجموعة الأخرى على قوائم ترقب الوصول في المطارات.
الخوارزميات
النقطة الثانية التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار في تقييم حقيقة الحرية على مواقع التواصل الاجتماعي هي الخوارزميات التي يعتمدها كل موقع منها من أجل تنظيم المحتوى، بعض هذه الخوارزميات كالتي يعتمدها موقع فيسبوك في التعامل مع الصفحات تعد حجرا على الحريات وقيدا من قيود المصالح التي يمكن إدراجها تحت بند المصالح الاقتصادية، فباتت تستخدم هذه المواقع انتشارها الواسع و”حريتها” في جني الأموال مقابل توسيع دائرة الانتشار للمستخدم بما يعرف بالـReach.
الخصوصية
أما من جانب الخصوصية فإن الظاهر لنا هو تمكين المستخدم من التحكم في خصوصيته وحمايتها، ولكن الجانب الآخر في عتمة هذه المواقع هو استخدام تلك البيانات الخاصة من أجل توفير خدمات أفضل، فتعمل خوارزميات فيسبوك على سبيل المثال على التحليل المستمر لكل بياناتك وتحركاتك على الإنترنت لتجلب لك ما تعتقد أنه قد يثير اهتمامك، وفي الحقيقة يعتبر هذا استغلالا لا أخلاقيا للمعلومات الخاصة من أجل عمليات الترويج وجني الأرباح.
وإذا كانت هذه البيانات تستخدم من أجل جني الأرباح فيسظل الشك قائما في حقيقة الصراع بين مواقع التواصل الاجتماعي والحكومات حول تشفير المحادثات وتسليم المعلومات للسلطات في حال طلبها.
التصنيفات الدولية للـ”إرهاب”
لا أعتقد أن أحدا من قارئي هذا المقال يمكنه معرفة مصدر “الإرهاب” على وجه الدقة، ولكن قد يجمع عدد كبير على أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت بشكل أو بآخر على انتشار جماعات مسلحة في كثير من الدول، ومن باب محاربة “الإرهاب” تسعى هذه المواقع إلى محاصرتهم افتراضيا.. ولكن، كيف يتم تحديد هذه الجماعات؟ ومن يقرر أيها “إرهابي” وأيها معتدل أو مقاوم؟ هل هي دول وأنظمة أم المواقع بشكل ذاتي؟
الإجابة على هذا التساؤل يضع شبكات الإعلام الجديد في حرج أيا ما كان الجواب. فلو كانت المواقع تتبع قرارات الدول فهذا ينسف مبدأ الحرية الذي تتباهى به هذه الشبكات ويضعها تحت وطأة الدولة كغيرها من الوسائل التقليدية، ولو كانت (المواقع) هي صاحبة القرار فالمصيبة أعظم، إذ كيف يمكن الحديث عن الحرية في أماكن تسمح بالكلام لمن تشاء وتكمم أفواه من تشاء، ولكم في إغلاق موقع تويتر حسابات كتائب القسام مؤخرا خير مثال على ذلك.
الأخلاق
بعيدا عن برمجيات المواقع وقوانين الدول والأنظمة والمصالح المشتركة بين المستفيدين سياسيا أو اقتصاديا، فإن المستخدم نفسه لهذه المواقع يعتبر أحد أهم عناصر التقييم لمدى حقيقة هذه الحرية، إذ شاع في المجتمعات العربية على وجه التحديد عدم قدرتهم على التعايش في بيئة حرة كما ينبغي.
الناظر إلى حال المستخدمين في مواقع التواصل الاجتماعي يرى أنها بيئة لانتهاك الحريات والأعراض وليست بيئة حرية، سواء أكان ذلك في السب والقذف المستمر بين الأطياف والأحزاب وحتى بين مشجعي أندية كرة القدم، أو سرقة المحتوى ونسبه إلى غيره مالكه، أو التجسس على خصوصيات الناس ونشرها أو التشهير بهم.
وعلى هذا النحو لا يمكننا النظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي على أنها بيئة الحرية المثالية وإن كانت مساحة الحرية الافتراضية بها أوسع من الواقعية التي نعيشها في بلادنا؛ على الأقل حتى نحسن نحن استخدامها.
المصدر “مجلة الصحافة التابعة لمركز الجزيرة الإعلامي للتدريب و التطوير”