بشير الكبيسي| في الصحافة.. للحقيقة وجوه عدّة

newspaper-2-e1384786020936

تعاظمت الأدوار والوظائف المنوطة بالإعلام مُنذْ مدةٍ ليست قصيرة، حيث لم تعد مقتصرةً على وظيفة الإخبار (informer) التقليدية، بل أصبحت وسائل الإعلام تتكفل بوظائف جمّة كالبحث والتحليل والتفسير والتحقيق الاستقصائي ومحاربة الفساد ورسم الخطط الاستراتيجية للدولة وملاحقة المجرمين والفاسدين، الأمر الذي جعلها “السلطة الأولى” وذلك على حساب السلطات الأخرى -التنفيذية والتشريعية والقضائية- بسبب الفساد المستشري فيهم والعجز الواضح في أداء الواجبات المنوطة بهم.

ومن هذا المنطلق، بات الإعلام يتحكم في الواقع ويبسط سيطرته على مختلف مناحيه، فقد جعل علاقتنا بهذا العالم لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بقدر ما تُحدَّد وفق الرؤية التي يقدمها لنا جاهزة عبر أصنافه وفنونه المتعارف عليها، فاستحوذ بذلك على آليات إنتاج المعنى ومعها الحقيقة أيضاً.

إن الوظيفة الأساسية للإعلام هي “الإخبار”، لذلك نجد أن الجماهير ترى في المنابر الإعلامية قنوات للإخبار وتنتظر منها نقل الحقيقة وتبليغ الأخبار والمعلومات بأمانة ودقة.

فهل تنقل المنابر الإعلامية على اختلافها وتعدد أشكالها الحقيقة فعلاً للجمهور المتابع؟ ثم ما طبيعة هذه الحقيقة التي تنقلها، هل يقصد بها المطابقة الدالة عليها وبين الأشياء كما هي عليه في الواقع، أم أن الأمر يتعلق بحقيقةٍ من نوع آخر ينبغي كشفها وتسليط الضوء عليها؟

إلى جانب تساؤلاتٍ أخرى يطرحها الباحث المغربي الأستاذ عبدالقادر ملوك في ورقةٍ بحثيةٍ منشورة في مجلة “عالم الفكر”.
وقد تعددت الآراء واختلفت حول الحقيقة التي تعتبر من المعايير المهنية التي لا بدَّ أن تلتزم بها المؤسسات الصحفية والإعلامية والعاملين فيها، وتكوّنت مدراس فكرية، كلّ واحدة منها تنظر إلى “الحقيقة” نظرةً مختلفة.
فهناك من يربط الحقيقة بالوقائع مباشرةً وآخر يربطها بالخطاب الصحفي والإعلامي المنتج حول هذه الوقائع.

ويرى أصحاب التوجه الأول المذكور أعلاه أن وظيفة الإعلام الأساسية تتجسد في نقل الوقائع كما هي بالفعل وكما تقع في مسرح الأحداث، أي بموضوعيةٍ وحيادٍ ومن دون تحيز أو إدراج رأي أو تعليق.

ومن المدافعين عن هذا التوجه، نجد دانييل كورني الذي دائماً ما يطالب الصحفيين بالاقتصار على الوقائع كما هي من دون تمرير أي رأي -لأن كل رأي- في اعتقاد كورني لن يكون إلا ذاتيًّا.

ويعتبر كورني أن الخبر هو محصلة لتضافر ثلاث آليات في ممارسة الصحفي لمهمتهِ تتمثلُ في الملاحظة (لحظة الوصول إلى موقع الحدث) والتأويل (لحظة البدأ بتوثيق الحدث) ثم التبليغ (لحظة إذاعة الحدث). وهي آلياتٌ تكشف بطريقةٍ أو بأخرى عن تدخل “الذات” بشكلٍ من الأشكال في مسار تحول الحدث إلى خبر.

أصبح الصحفيون والإعلاميون يعون بجلاء أن المؤسسات الصحفية والإعلامية في عالمنا العربي استعاضت عن خطاب الحقيقة الذي يتمثل -وفق مبدأ إسكينازي- في حصول إجماع كلي حول محتوى خبر معين، بخطابِ المحتمل أو الراجح، الذي يتمثل دائماً –وفقا لإسكينازي- في الخبر الذي يوافق انتظارات الجمهور وتطلعاتهم، وهو خطابٌ يقوم على جملة من الإجراءات من بينها الاعتماد على أطر وقوالب تأويلية خاصة تتماشى وسياسة المنبر الإعلامي وتوجهاته.

ويستمرُ السجال حول خطاب الحقيقة مع “جيل غوتيي”، فهو يقر أن الحقيقة هي هدف ضروري بالنسبة إلى الصحافة، وتسعى إليه كلّ المؤسسات الصحفية والإعلامية بطرقٍ وأساليبٍ مختلفة.

يطرح غوتيي مصطلح “القبلية الإخبارية” ويعني به أن الصحافة ملزمة بإنتاج إثباتات صحيحة انطلاقا من توجهها صوب الواقع الخام أي “الحدث” كما يقع على أرض الواقع دون تدخل “الذاتية” فيه.

وهذا يعني أن الصحافة تنقل معرفة من نوع ما لها “صلة” بالأحداث الجارية، الأمر الذي يؤكد وجود واقع خام آخر، أي معطى، منه تُستنبط الأخبار التي ينصب عليها العمل الصحفي.

فالقبلية الإخبارية تفترض أن الوظيفة المناطة بالصحافة تكمن في إنتاج إثباتات صحيحة تفترض أن أداء هذه الوظيفة يقوم أساساً على واقع خام مستقل، وبموجب ذلك تصبح علاقة الصحافة بالحقيقة مرتبطة بعلاقتها بالواقع، إذ هي لا تستهدف الواقع إلا بحثاً عن الحقيقة الكامنة داخله.

نستنتج من ذلك، أن الصحافة لا تتعامل مع واقع خام وبالتالي فهي غير قادرة على إنتاج الحقيقة “الحقيقية”.
فالصحفيون كما يقر غوتيي، لا يسجلون الواقع كما هو؛ لأن ذلك ليس في متناولهم بل يقومون بتوصيف خاص له، انطلاقاً من اختياراتهم الذاتية ومن توجههم الأيديولوجي، وانطلاقاً كذلك من انتقاء عناصر دون أخرى داخل الوضع المرصود.
ويعرض غوتيي تصورين يرتبطان بالواقع والحقيقة:

التصور المرتبط بالواقع: “يوجد واقع مستقل عن الصحافة، وحول هذا الواقع المستقل ينصب العمل الصحفي ومن ثم يجري بناء الخبر”.

التصور المرتبط بالحقيقة: “الصحافة تقوم على إنتاج إثباتات صحيحة حول هذا الواقع المستقل، والإخبار بقيم الحقيقة هو النشاط الذي يسبق البناء الصحفي”.

وارتباطاً بالحقيقة الصحفية يرى غوتيي أن هدف الإخبار يندرج بشكلٍ كليٍّ ضمن صنف الأفعال الإثباتية/التقريرية التي تشكل إلى جانب الأفعال التوجيهية والتعبيرية والتصريحية والتعهدية، الأنواع الخمسة الكبرى لأفعال الكلام.
ففعل الإخبار بالمعنى الصحفي للكلمة هو بدوره فعلاً إثباتيًّا من منطلق كون الفعل الإثباتي يتعهد للمتلقي بحقيقة الخبر، أي تقديم الخبر بوصفهِ تمثيلاً لحالة موجودة في الواقع، فهو نشاطٌ ملازم لقيمة من قيم الحقيقة، ويعني أن الخبر الذي ينتج عن هذا النشاط هو بالضرورة إما صحيح وإما خاطئ.

ويلخص “ملوك” محصلة آراء “غوتيي” بالنقاط الآتية:

1- الأخبار هي موضوعات مبنية وليست “الواقع الخام” نفسه.
2- تستند الأخبار إلى وقائع سابقة تسمى “وقائع صحفية”.
3- إن الوقائع الصحفية هي إما وقائع خام وإما وقائع اجتماعية في الغالب، أي وقائع هي بدورها مبنية.
4- إن الوقائع الاجتماعية مبنية انطلاقاً من وقائع خام.
5- إن الأخبار في المحصلة، مبنية دائما انطلاقاً من وقائع خام تسمى “وقائع صحفية خام”.

لو نظرنا نظرةً فاحصة لأغلب الآراء التي تم طرحها في هذه القضية، فإننا سنجد أن الذي يوحدها هو الإقرار بوجود واقع مستقل للصحافة رغم أنه مختلفٌ عن “الواقع الخام”، ولكنه يدور حوله، وربما يتلمسه في بعض الأمور التي تقترب من “الحتميات”.

وفي رأيي، أن ذلك لا يُعد عيباً ينتقص من الوظائف المقدسة التي تؤديها الصحافة، بل على العكس أراهُ طبيعيًّا لأن الصحفي أو الإعلامي بطبيعة الحال يحمل الغرائز الإنسانية التي يحملها أيضاً بنو البشر من آراء وميول ورغبات واهتمامات وحاجات، تقفُ حائلاً دون نقل الحقيقة الخام إلى الجمهور، طالما تدخلت “الذاتية” في عملية فهم وسرد الحدث.

صَفوة القول، سيكون من السذاجة لو أننا قبلنا بـ “خزعبلات” بعض المؤسسات الصحفية والإعلامية وشعاراتها الفضفاضة إزاء “الحقيقة”، فهي قضيةٌ نسبية كما رأينا ولكن المرجو من إعلامنا العربي، أن يجتهد بملامسة “الحقيقة” أو “الواقع” الخام، لا أن نغلف خطابنا الإعلامي بتوجهاتنا وآرائنا وأيديولوجياتنا المكشوفة.

 

المصدر “مجلة الصحافة التابعة لمركز الجزيرة الإعلامي للتدريب و التطوير”

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *